فصل: بحث في زكاة الحلي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


بحث في زكاة الحلي

المرأة هي التي تحتاج إلى الحلي لنفسها من أجل أن تكمل به، واستمع إلى قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ‏}

ما الذي ضربه مثلاً للرحمن قال‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ‏}‏‏.‏

وتفسير هذه الآية في سورة الزخرف‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ‏}‏‏.‏

بين فيها نصين عظيمين‏:‏ جسدي يحتاج إلى حلية ‏{‏أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ‏}‏‏.‏ ونص بلاغة وبيان، ‏{‏فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ‏}‏ وإذا كان غير مبين في الخصام فهو أيضاً ناقص التفكير، أي أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين كمن لا ينشأ في الحلية وهو في الخصام مبين‏.‏

فهل يستوي هذا وهذا‏؟‏ لا‏.‏

أقول‏:‏ إن الزكاة تجب في الذهب والفضة وإن كان حليًّا، لكن يأتينا رجل ويقول‏:‏ دعواكم وجوب الزكاة في حلي المرأة تحتاج إلى دليل فما موقفنا نحن‏؟‏

الواجب على أهل العلم أن يقنعوا من طلب الدليل بالدليل، لأن معه حقًّا، فالله عز وجل ما أرسل الرسل إلى الخلق إلا بآيات تقيم بها الحجة وتدل على رسالتهم‏.‏

فنحن أيضاً إذا قلنا قولاً، وقلنا‏:‏ إن هذا هو الشرع، أو هذا هو الواجب، أو هذا حرام، أو هذا حلال، فلكل مسلم الحق أن يقول‏:‏ أين الدليل‏؟‏

والرجل الذي يقول‏:‏ أين الدليل تحدياً فلك الحق أن تقول‏:‏ قد أبلغناك وحسابك على الله‏.‏

وأما من علمنا أنه يريد الدليل ليبني عبادته على بصيرة، فإننا نشكره على ذلك، ونبين له الدليل ما استطعنا، فالدليل على ذلك‏:‏

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من صاحب ذهب أو فضة لا يؤدي منها حقها إلا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار‏"‏‏.‏

والمرأة التي عندها حلي صاحبة ذهب وحق المال الزكاة، كما قال الصديق ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ ‏"‏الزكاة حق المال‏"‏‏.‏

إذن ‏"‏ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها زكاتها‏"‏ وعليه فهذا الحديث بعمومه دليل على أنه يجب على المرأة أن تزكي حليها من الذهب أو الفضة، لأنها داخلة في قول‏:‏ ‏"‏ما من صاحب ذهب ولا فضة‏"‏‏.‏

لكن لو كان الذي يخاطبك طالب علم وقال‏:‏ إن النص الآن دلالته على الإفراد ظنية وليست قطعية، ونحن نريد أن يكون هناك نص في الموضوع، أي في وجوب الزكاة في الحلي‏.‏

قلنا له‏:‏

أولاً‏:‏ الأصل في خطاب الشرع إذا كان عامًّا أن يتناول جميع الأفراد، لأننا نعلم أن الشارع الذي تكلم بهذا النص هو أعلم من تكلم بمراده، ويعرف ويعلم كل ما يتناوله هذا اللفظ من المعنى، ولو كان شيء من الأفراد مستثنى لاستثناه، لأنه لو كان هناك شيء من الأفـراد يخالف حكم العام ولم يستثنه لم يبلغ ما أنزل إليه من ربه‏.‏

ثانياً‏:‏ كلنا يعلم أن أنصح الخلق للخلق هو الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يأتي بخطاب عام يستثنى منه شيء من بعض أفراده ولا يبين ذلك، لأن هذا خلاف النصيحة‏.‏

ثالثاً‏:‏ كلنا يعلم أن أفصح الخلق لما ينطق به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يأتي بلفظ عام وهو يريد به بعض أفراده، فهذا خلاف الخطاب‏.‏

هذا هو الجواب الأول لمن ادعى أن العام دلالته على جميع أفراده دلالة ظنية‏.‏

المرحلة الثانية في الجواب‏:‏ أن نذكر الأدلة الخاصة على وجوب الزكاة في الحلي‏:‏

واستمع إلى حديث عبدالله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عههما ـ قال‏:‏ أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، والمسكتان ـ أي سواران ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أتؤدين زكاة هذا‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏"‏أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار‏"‏، الله أكبر‏.‏ فهل المرأة قالت‏:‏ يا رسول الله أعددت هذين السوارين للبس، فكيف تجب الزكاة علّي فيهما، ولا تجب الزكاة علَّي في السوار فكيف أعذب بالنار‏؟‏ لم تقل هذا‏.‏ بل استسلمت، وخلعت السوارين وألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت‏:‏ هما لله ورسوله‏.‏

لقد اختار الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم أطوع الناس، وأتبعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث لم يتلكؤا في قبوله، ولم يترددوا في تنفيذه، بل يقولون بألسنتهم وأفعالهم‏:‏ سمعنا وأطعنا‏.‏

والأمثلة على ذلك كثيرة، ليس هذا موضع ذكرها‏.‏ فهذه المرأة استجابت فوراً فخلعتهما وألقتهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في بلوغ المرام‏:‏ أخرجه الثلاثة وإسناده قوي، وله شاهد من حديث عائشة وأم سلمة ـ رضي الله عنهما ـ وهو قوي بدونهما، لكن كلما زاد في القوة ازدادت الثقة‏.‏

ونحن نشكر الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ أن ساق هذا الحديث في بلوغ المرام، وأيده وقواه، مع أن مذهبه شافعي، والشافعية لا يرون وجوب الزكاة في الحلي، ولكن مثل هؤلاء العلماء الكبار وإن كانوا ينتسبون إلى المذهب لا يرون أن المذهب واجب الاتباع في كل شيء، بل إذا خالف مذهبهم الدليل ضربوا به عرض الحائط وأخذوا بالدليل‏.‏

فهو في الحقيقة يشكر على سياق هذا الحديث في بلوغ المرام وعلى تقويته وترجمته‏.‏

إذن عندنا دليل من السنة عام وخاص، وفيه دليل أيضاً من القرآن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ أي يمنعون ما وجب بذله منها، فيدخل في هذا أيضاً وعليه فتكون الآية والحديثان اللذان ذكرناهما كلها تدل على وجوب زكاة الحلي‏.‏

لكن قد يقول رجل‏:‏ لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس في الحلي زكاة‏"‏ وهذا خاص يخصص حديث أبي هريرة ‏"‏ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منه حقها‏"‏ ومعلوم عند أهل العلم أن الخاص يخصص عموم العام، فما هو الجواب على هذا‏؟‏

الجواب‏:‏ فنجيبه بجوابين‏:‏

الجواب الأول‏:‏ هل صح هذا الحديث أم لم يصح، وهذا لابد منه، لأن المستدل بالسنة يطالب بأمرين‏:‏

أولاً‏:‏ ثبوت النص‏.‏

ثانياً‏:‏ ثبوت دلالته ـ أي الحكم‏.‏

والمستدل بالقرآن يطالب بأمر واحد فقط، وهو إثبات دلالة القرآن على الحكم‏.‏

فهذا الدليل ـ أي الحديث ـ قال كثير من أهل العلم‏:‏ إنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يصح فلا يكون مستقيماً لمعارضته الأحاديث الصحيحة، لأن ما لا يصح لا يجوز العمل به وإن لم يعارض، فضلاً عما إذا عورض‏.‏

وعلى تقدير صحته نقول له‏:‏ هل أنت تقول بموجب هذا الحديث، وتسقط الزكاة في كل حلي، فإن قال‏:‏ نعم، قلنا له ليس الأمر كذلك‏.‏

وإن قال لا، قلنا خالفت دليلك؛ لأن الدليل ‏"‏ليس في الحلي زكاة‏"‏ عام وأنت تقول‏:‏ إن الحلي إذا أعد للأجرة، أو أعد للنفقة، أو كان محرماً وجبت فيه الزكاة، فخالفت الدليل‏.‏

وعلى هذا يبطل استدلاله بهذا الحديث من حيث السند، ومن حيث القول بموجبه‏.‏

فلو قال لنا هل أنتم تثبتون القياس‏؟‏ نقول له‏:‏ نعم نثبت القياس الصحيح؛ لأن الله تعالى قال في كتابه‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏}‏‏.‏

فنثبت القياس الصحيح، قال‏:‏ إذن الحلي الملبوس كالثوب الملبوس، فهل أنتم توجبون على المرأة الزكاة في ثوبها الذي تلبسه‏؟‏، قلنا‏:‏ لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ليس على المسلم في عبده، ولا فرسه صدقة‏"‏‏.‏

فالشيء الذي يختص به الإنسان كالثياب لا زكاة فيه‏.‏

قال‏:‏ إذن فالحلي مثل الثياب لا زكاة فيه، فنقول له‏:‏ هذا القياس فاسد الاعتبار؛ لأنه في مقابلة النص، وكل قياس في مقابلة النص فإنه فاسد الاعتبار لا يعتبر أبداً‏.‏

وقلنا له أيضاً‏:‏ قياسك لا يصح من حيث القياس، لا من حيث مخالفة النص، فأنت الآن تقول‏:‏ إن الحلي إذا أعد للأجرة ففيه الزكاة، فهل تقول‏:‏ إن الثياب إذا أعدت للأجرة فيها زكاة‏؟‏ سيقول‏:‏ لا‏.‏

الثياب المعدة للأجرة لا زكاة فيها زكاة، والحلي المعدة للأجرة فيها الزكاة، فلا يصح القياس؛ لأن القياس يقتضي مساواة الفرع للأصل في الحكم، وإلا اختل القياس‏.‏ وقد سبق تفصيل ذلك أكثر من مرة، وتبين أن القول الراجح الذي تبرأ به الذمة هو إخراج زكاة الحلي، والله أعلم‏.‏

بحث في زكاة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيم

سوف نتكلم عن زكاة الفطر من حيث

أولاً‏:‏ حكمها والحكمة منها‏.‏

ثانياً‏:‏ جنسها‏.‏

ثالثاً‏:‏ قدرها‏.‏

رابعاً‏:‏ وقت إخراجها‏.‏

خامساً‏:‏ مكان إخراجها‏.‏

أما الأول من حيث حكم الصدقة‏:‏ فحكمها أنها فريضة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ قال‏:‏ ‏"‏فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير‏"‏‏.‏

وقال أبو سعيد ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ ‏"‏كنا نخرجها على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، وكان طعامنا التمر، والشعير، والزبيب والأقط‏"‏‏.‏ ولم يكن البر شائعاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كثر البر وشاع بعد ذلك‏.‏

فهذا حكم هذه الزكاة، فهي فريضة على الصغير والكبير والذكر والأنثى من المسلمين، وأما الحمل في البطن فإن الإخراج عنه ليس بواجب، وإن أخرج الإنسان عنه تطوعاً فقد روي ذلك عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وقول ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ ‏"‏فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم‏"‏ دليل على أنها فرض عين‏.‏

والأصل في فرض العين أن يكون على المكلف نفسه، أي على من فرض عليه‏.‏

فالإنسان يجب أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه، والابن يجب أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه، وكذلك كل مكلف يجب أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه؛ لأنه هو المخاطب بها، ولكن إذا كان رب الأسرة يخرج زكاة الفطر على مشهد من أهله وأولاده، فإذا وافقوا على أن يكون هو المخرج للزكاة فلا حرج في هذا‏.‏

وأما الحكمة من فرض هذه الزكاة، فالحكمة جاء بها الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ‏:‏ ‏"‏فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين‏"‏‏.‏

هذه هي الحكمة، فهي طهرة للصائم، لأن الصائم لا يخلو في صومه من لغو، ورفث، وكلام محرم، فهذه الزكاة تطهر الصوم، وكذلك تكون طعمة للمساكين في هذا اليوم ـ أي يوم العيد ـ لأجل أن يشاركوا الأغنياء فرحتهم بعيدهم‏.‏

ثانياً‏:‏ وأما جنس هذه الفطرة فاستمع إليها من الحديث الذي أشرنا إليه ‏"‏فرضها صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير‏"‏ وقال أبو سعيد‏:‏ ‏"‏كنا نخرجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام‏"‏ فالذي حدث ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها صاعاً من شعير‏"‏ هو عبدالله بن عمر، والذي قال‏:‏ ‏"‏كنا نخرجها صاعاً من طعام‏"‏ هو أبو سعيد الخدري، وكلاهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنهما ـ‏.‏

فابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ حكى فرض النبي صلى الله عليه وسلم بجنس هذه الزكاة من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ‏"‏فرضها صاعاً من تمر أو من شعير‏"‏‏.‏

وأبو سعيد ـ رضي الله عنه ـ ذكر حال الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم ‏"‏يخرجونها صاعاً من طعام‏"‏ وبهذا يتبين أن الجنس الواجب إخراجه في زكاة الفطر هو الطعام، وأن الإنسان لو أخرجها من الدراهم فإنها لا تجزئه، ولو أخرجها من الثياب فإنها لا تجزئه، ولو أخرجها من الفرش فإنها لا تجزئه، ولو أخرجها من الآلات الأخرى كالأواني ونحوها فإنها لا تجزئه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها صاعاً من تمر، أو من شعير‏.‏

وكل قياس، أو نظر يخالف النص فإنه مردود على صاحبه، ونحن متعبدون لله عز وجل بما جاء في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لسنا متعبدين بما تهواه نفوسنا، أو بما ترجحه عقولنا، مادام في المسألة نص، فإنه لا خيار لنا فيما نذهب إليه ولا اختيار ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً ‏}‏‏.‏

فإذا كان هذا ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يقول‏:‏ ‏"‏فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير‏"‏‏.‏

وإذا كان أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ يقول‏:‏ ‏"‏كنا نخرجها صاعاً من طعام‏"‏‏.‏ فهل الدراهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مفقودة حتى لا تجد إلا الطعام‏؟‏

كلا بل الدراهم كانت موجودة، والذهب موجود، والفضة موجودة، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من حديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ ‏"‏الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر وبالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح‏"‏‏.‏

كل هذا موجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يختر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفرض زكاة الفطر على أمته إلا صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير فكيف يسوغ لنا بعد ذلك أن نقول‏:‏ إن الأفضل الآن أن تخرجها دراهم‏؟‏‏!‏ إن هذا القياس في مقابلة النص، وهو مردود وفاسد الاعتبار‏.‏

نعم قد نقول‏:‏ إن الأنفع أن نخرجها من الدراهم؛ لأنه إذا أخرجناها من الدراهم انتفع بها، ولكن مادام الأمر منصوصاً عليه، فإنه لا عدول لنا عما نص عليه الشرع، فالشرع أعلم منا، فقد يكون في هذا الزمن الدراهم خير من الطعام، لكن ربما تأتي أزمان يكون الطعام خيراً من الدراهم، بل قد يكون الصاع من الطعام يعادل صاعاً من فضة‏.‏

والناس إذا قلنا لهم‏:‏ أخرجوها من الدراهم واعتادوا إخراجها من الدراهم صعب عليهم الانتقال فيما بعد إلى إخراجها من الطعام؛ ذلك لأن إخراجها من الدراهم أسهل وأيسر، ولأنه إذا غلا الطعام وارتفعت أسعاره، فإن الإنسان يصعب عليه أن يخرج الطعام لكونه غالياً، ولكون سعره رفيعاً‏.‏

فلهذا كانت الحكمة بلا شك هي ما قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ويقول بعض الناس‏:‏ إننا إذا أعطينا الفقير صاعاً من طعام فإنه يبيعه ونحن نراه رأي العين ويبيعه بنصف ثمنه، أو أقل أو أكثر‏؟‏

فنقول‏:‏ نحن ليس علينا من فعل الفقير شيء، بل علينا أن نفعل ما أمرنا به، وأن نقول سمعنا وأطعنا، وأن نبذل الطعام، ثم للفقير الذي ملكه الخيار فيما شاء، فإن شاء أكله، وإن شاء ادخره، وإن شاء باعه، وإن شاء أهداه، وإن شاء دفعه صدقة عن نفسه، فليس علينا من هذا شيء، فالشيء الذي أمرنا به صاعاً من طعام‏.‏

وما موقفنا أمام الله عز وجل إذا خالفنا ما فرضه رسوله صلى الله عليه وسلم فهل لنا حجة أن نقول‏:‏ يا ربنا إننا رأينا أن الدراهم خير، أبداً‏.‏

فإن الخير ما اختاره الله لنا، وما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا‏.‏

فيا عباد الله لا نذهب بعيداً في القياس حتى نتجاوز ما فرضه الله علينا، فإن عقولنا متهمة، وإن عقولنا قاصرة، وإن الشرع محكم من عند الله عز وجل، لا يمكن أن يكون فيه خلل، ولا نقص، وإن عقولنا لا تتجاوز نظر ما نحن فيه في هذا العصر‏.‏

ولكن علم الله عز وجل المحيط بكل شيء، والذي فرض علينا أن نخرج هذه الصدقة صاعاً من طعام، إنه علم لا نهاية له‏.‏ فإني أقول ذلك نصحاً لكم، وإقامة للحجة، وإبراءً للذمة، وحتى لا يغتر مغتر بما يراه بعض الفقهاء؛ لأن كل إنسان يؤخذ من قوله ويترك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضها صاعاً من تمر، أو شعير، وهو طعام ذلك الوقت، فإننا سنرفض قول كل من سواه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهل يجب أن يكون هذا الطعام من أشياء معينة وهي البر، والتمر، والشعير، والزبيب، والأقط، أو يجزىء من أي طعام‏؟‏

الجواب‏:‏ إذا نظرنا إلى حديث أبي سعيد الخدري‏:‏ ‏"‏كنا نخرجها صاعاً من طعام، وكان طعامنا التمر والشعير والزبيب والأقط‏"‏‏.‏

وإذا نظرنا إلى حديث ابن عباس فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين‏"‏‏.‏

علمنا أن الطعام هو الواجب، سواء كان من هذه الأصناف الخمسة أم من غيرها، وأن هذه الأصناف الخمسة إنما ذكرت لأنها كانت طعام الناس في ذلك الوقت، ويكون التنصيص على أعيانها من باب التمثيل لا من باب التعيين‏.‏

وعليه فإذا وجدت أطعمة أخرى للناس يطعمونها فإننا نخرج من هذه الأطعمة، فيوجد الآن أطعمة أنفع للناس من هذه الأطعمة مثل الأرز، فإن الأرز الآن طعام غالب الناس في هذه البلاد وهو أنفع بكثير للناس من بقية هذه الأنواع، فإذا أخرج الإنسان من الأرز فإن ذلك مجزىء، بل قد نقول‏:‏ إنه الأفضل، لأنه أنفع للفقير وأيسر، ولقد قدرنا أننا في منطقة لا يطعم أهلها إلا السمك هذا طعامهم، فهل يجزىء من السمك، نعم يجزىء، لأن العبرة بما كان طعاماً وهو يختلف باختلاف الأزمان، واختلاف الأحوال واختلاف البلدان‏.‏

وعليه فالمدار على الطعام، وهذا جنس ما تخرج منه الفطرة‏.‏

ثالثاً‏:‏ أما قدره فإنه صاع لقول ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ‏:‏ ‏"‏فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً‏"‏، وقول أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ ‏"‏كنا نخرجها صاعاً من طعام‏"‏‏.‏

ومن المعلوم أن هذه الأصناف التي جاءت في الحديث عن أبي سعيد أربعة‏:‏ تمر، وزبيب، وشعير، وأقط‏.‏

والأقط هو اللبن المجفف يجعل أقراصاً، أو يجعل فتيتاً ويأكل، فهذه الأصناف هل هي متفقة القيمة أو مختلفة‏؟‏

الغالب أنها مختلفة، لكن ربما يأتي زمان تتفق، ولكن الغالب أنها مختلفة‏.‏

ولماذا قدرها الرسول صلى الله عليه وسلم صاعاً مع اختلافها؛ لأجل أن لا يكون هناك افتراق؛ لأنه لو قيل الواجب صاعاً من تمر، أو ما يعادله من الزبيب، أو الشعير، أو الأقط حصل اختلاف في التقويم، وصار هناك ارتباك‏.‏

ولكن الشرع جعلها صاعاً؛ لأجل أن يكون أضبط للناس ويخرج الإنسان من هذه الأنواع ومن غيرها ما يكون طعاماً، فإذا قلت ما مقدار الصاع‏؟‏

فإننا قد حررناه فبلغ كيلوين وأربعين غراماً بالبر الرزين الدجن الذي ليس خفيفاً وليس فيه عيب‏.‏

فإذا اتخذت إناءً يسع كيلوين وأربعين غراماً من البر الرزين ثم قست به الفطرة فقد أديت الصاع، ومعلوم أن هذا المقدار أقل من الصاع المعروف الآن، وأقل من الكيل المعروف في الحجاز‏.‏

لكن صاع النبي صلى الله عليه وسلم أقل من الصاع المعمول بنجد، ومن الكيل المعهود في الحجاز‏.‏

رابعاً‏:‏ وقت الإخراج‏:‏ زمانها يوم العيد قبل الصلاة، لقول ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ ‏"‏وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة‏"‏، هذا زمانها، وهذا أفضل وقت تخرج فيه‏.‏

ولكن يجوز أن تخرج قبل العيد بيوم أو يومين، فيجوز أن يخرجها ليلة التاسع والعشرين، ويجوز أن يخرجها يوم التاسع والعشرين، يجوز أن يخرجها ليلة الثلاثين ويوم الثلاثين‏.‏

أما إخراجها يوم سبع وعشرين، فإنه لا يجزىء، وأما إخراجها في اليوم الثامن والعشرين فعلى خطر، فإن كان الشهر ثلاثين لم تجزىء، وإن كان الشهر تسعة وعشرين أجزأ، وعلى هذا فلا ينبغي للإنسان أن يخرجها قبل اليوم التاسع والعشرين لئلا يقع في الخطر‏.‏

وأما إخراجها بعد صلاة العيد فإنه محرم، ولا يجوز، ولا تقبل منه على أنها صدقة الفطر لحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ‏:‏ ‏"‏من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات‏"‏، اللهم إلا إذا أتى العيد والإنسان ليس عنده ما يخرج، أو ليس عنده من يخرج إليه، ففي هذه الحال يخرجها متى تيسر له إخراجها‏.‏

وكذلك لو لم يعلم بالعيد إلا في وقت مباغت لا يتمكن من إخراجها قبل الصلاة وأخر إخراجها، فإن في هذه الحال تخرج ولو بعد الصلاة، وكذلك لو اعتمد بعض الناس على بعض، مثل أن تكون العائلة اعتمدت على قيمهم وهو في بلد آخر، ثم تبين أنه لم يخرج، فإنه يخرج ولو بعد العيد، وكذلك لو كان أحد من الناس في بلد آخر كبلاد الغرب مثلاً، وقد اعتمد في الإخراج على أهله، وهم اعتمدوا في الإخراج عليه، فإنه في هذه الحال تخرج ولو بعد العيد‏.‏

خامساً‏:‏ وأما مكان إخراجها، فإن مكان إخراجها هو المكان الذي يدركك العيد وأنت فيه، سواء كان بلدك أم بلداً آخر‏.‏

وعلى هذا فالمعتمرون في مكة الذين سيبقون إلى العيد، الأصل أنهم يخرجون زكاة الفطر في مكة، فيكون قد اجتمع في حقهم‏:‏ أن مكة مكان إقامتهم في وقت الإخراج، وأن مكة أفضل من غيرها؛ لأن الأعمال الصالحة في مكة أفضل من الأعمال الصالحة في غيرها‏.‏

وإذا كنت في بلد آخر غير مكة وأدركك العيد، فإنك تخرج الزكاة في البلد الذي أدركك العيد وأنت فيه‏.‏

وهل يجوز أن تخرجها في محل إقامتك بأن توكل أهلك في إخراجها‏؟‏

نعم يجوز ذلك ولا حرج‏.‏

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة حول الزكاة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً‏:‏

أما بعد، فإن الله تعالى منَّ على عباده بما خولهم إياه من الأموال التي جعلها الله لهم قياماً تقوم بها مصالح دينهم ودنياهم وجبلهم على محبة هذه الأموال جباية، وتطويراً، وادخاراً، فصارت بذلك فتنة واختباراً، يختبر بها العبد ليتميز بذلك من يتحكم عقله في هواه، فيقدم ما فيه مرضاة ربه ومنفعة نفسه على ما يتطلبه الشح والبخل‏.‏

لقد من الله على عباده بهذه الأموال في تحصيلها، ثم منّ عليهم مرة ثانية في هدايتهم إلى كيفية تصريفها، فسن لهم النظم السليمة العادلة في تصريفها وإنفاقها على وجه يحصل به خير الدنيا والآخرة من غير ضرر على صاحب المال‏.‏

وأعظم ما أوجبه الله من الحقوق المالية‏:‏ الزكاة التي هي إحدى دعائم الإسلام وأركانه، وهي قرينة الصلاة في أكثر الآيات القرآنية‏.‏

وقد دل على وجوبها الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، ولذلك كان وجوبها من الأمور المعلومة بالضرورة من دين الإسلام، وحكم أهل العلم على منكرها بالكفر والردة عن الإسلام، فيستتاب فإن تاب وأقر بالوجوب أجبر على أدائها، وإن استمر على جحده وإنكاره قتل كافراً‏.‏

وأما من منعها بخلاً وتهاوناً مع إقراره بالوجوب فإنه لا يكفر على الراجح من قولي العلماء، ولكنه ناقص الإيمان، وناقص التفكير أيضاً، فإنه إذا بخل بالزكاة فإنما يبخل عن نفسه ويوفر المال لوارثه‏.‏

أفيظن الباخل بالزكاة أن بخله بذلك سيخلده، أو سيخلد المال له‏؟‏ إن بخله بالزكاة سيعرض ماله للتلف الحسي، أو للتلف المعنوي وهو نزع بركته حيث لا يهيأ له الانتفاع به، أو يسلط على صرفه فيما لا ينفع أو فيما يضر، وإنه إذا بخل بالزكاة فسيعرض نفسه للوعيد الشديد الثابت في الكتاب والسنة‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏}‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ‏}‏‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شرح معنى الآية الأولى‏:‏ ‏"‏من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثّل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه يقول‏:‏ أنا مالك أنا كنزك‏"‏ رواه البخاري‏.‏

والشجاع‏:‏ الحية القوية أو الذكر من الحيات‏.‏ والأقرع‏:‏ الأملس الرأس‏:‏ إما لكثرة سمه، أو لطول عمره‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شرح الآية الثانية‏:‏ ‏"‏ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد‏"‏ إلى آخر الحديث، رواه مسلم‏.‏

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الأموال الزكوية، ومقدار نصبها، وما يجب فيها بياناً شافياً‏.‏

فمن الأموال الزكوية الذهب والفضة، وسبق في الآية الثانية وشرحها النص الصريح في الوعيد على من منع الحق الواجب فيهما وأعظمه الزكاة‏.‏

وعموم النص يقتضي وجوب الزكاة في الذهب والفضة، سواء كانا نقدين أم غير نقدين، وعلى هذا فتجب الزكاة في حلي الذهب والفضة إذا بلغ نصاباً، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، ويدل عليه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ـ رضي الله عنهم ـ أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب ـ أي سواران ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أتعطين زكاة هذا‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏"‏أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار‏"‏ فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال في بلوغ المرام‏:‏ رواه الثلاثة وإسناده قوي وله شواهد‏.‏

ومقدار النصاب من الذهب عشرون ديناراً، والدينار الإسلامي زنته مثقال، ويذكر أن الجنيه السعودي الذهب زنته مثقالان إلا ربع مثقال، وعليه فيكون نصاب الذهب أحد عشر جنيهاً سعوديًّا وثلاثة أسباع جنيه، فإذا كان عند المرأة حلي من الذهب يبلغ وزنه خالصاً نصاباً، ففيه الزكاة على الراجح من الأقوال، لعموم الأدلة، ولأنه أبرأ للذمة وأحوط في العبادة، وليس هذا موضع ذكر أدلة القائلين بعدم وجوب الزكاة فيه، والجواب عنها فلكل مقام مقال‏.‏

ومقدار النصاب من الفضة مائتا درهم إسلامي، والدرهم الإسلامي زنته سبعة أعشار مثقال، فتكون مائتا الدرهم مائة وأربعين مثقالاً، ويذكر أن الريال السعودي زنته مثقالان ونصف، وعليه فيكون النصاب بالريال السعودي ستة وخمسين ريالاً‏.‏

وإذا كانت الحكومة قد أبدلت النقد من الفضة بأوراق النقد فإن البدل له حكم المبدل فتجب الزكاة في الأوراق النقدية إذا بلغت ما يساوي ستة وخمسين‏.‏

ومقدار الزكاة الواجبة في الذهب والفضة ربع العشر بأن تقسم المال الزكوي الذي عندك على أربعين، فما خرج بالقسمة فهو الواجب‏.‏

وإذا كان للرجل ديون في ذمم الناس ففيها الزكاة إن بلغت نصاباً، أو كان عنده من جنسها ما يكمل به النصاب، سواء كان هذا الدين قرضاً، أو قيمة مبيع، أو أجرة استوفى نفعها، أو غير ذلك من الديون المستقرة، ولكن لا يلزمه إخراج زكاة هذا الدين حتى يقبضه، فإذا قبضه زكاه لما مضى من السنين، هذا إن كان الدين على غني باذل ـ أي غير مماطل ـ أما إذا كان الدين على معسر فأرجح الأقوال أنه لا يلزمه إخراج زكاته لكل ما مضى من السنين، وذلك لأنه غير قادر على استخراجه ممن هو في ذمته؛ لأنه يجب إنظاره مادام معسراً ولكن إذا قبضه يجب إخراج زكاته لسنة واحدة فقط، لأن حصوله بعد اليأس منه يشبه الحصول على الثمرة فيخرج زكاته وقت تحصيله‏.‏

ومن الأموال التي تجب فيها الزكاة عروض التجارة، وهذه غير محصورة بنوع معين من المال، وإنما تشمل كل مال أراده المالك للتكسب والربح سواء كان عقاراً، أو طعاماً، أو فرشاً، أو حيوانات، أو سيارات، أو آلات ومعدات أخرى، أو قماشاً أو غير ذلك‏.‏

فكل ما أعده مالكه للتكسب والربح فهو عروض تجارة، فيجب عليه أن يقومه كل سنة سواء بقي بعينه، أو استبدله بغيره من العروض، فيقوم ما عنده عند حلول الزكاة بما يساوي، ثم يخرج ربع عشر قيمته، سواء كانت قيمته عند الحول تساوي ما اشتراه به، أو أقل، أو أكثر‏.‏

وأما ما أعده الإنسان لحاجته كأثاث البيت، وأوانيه، وأواني دكانه التي لا يريد بيعها، ومكائن فلاحته، ونحو ذلك، فلا زكاة فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة‏"‏‏.‏

وأما العقار من الأراضي والبيوت والدكاكين فإن كان اشتراها ينتظر فيها زيادة القيمة والربح ليبيعها فعليه زكاتها؛ لأنه ليس له غرض في عين العقار، وإنما غرضه في ربحه إذا باعه، وأما إذا اشترى العقار ليستغله بالأجرة، وليس له غرض في بيع العقار نفسه، فليس عليه زكاة في العقار نفسه، وإنما عليه الزكاة في أجرته‏.‏

وكذلك السيارة التي اشتراها لا يريد التكسب فيها ببيعها وإنما أراد استغلالها بالأجرة فلا زكاة فيها، بخلاف السيارات التي عند أهل المعارض فإن عليهم فيها الزكاة؛ لأنهم إنما اشتروا هذه السيارات للتكسب بها فهم كأصحاب المتاجر الأخرى‏.‏

ولا تجب الزكاة في المال حتى يحول عليه الحول، إلا ربح التجارة، فإنه يزكي تبعاً لأصله، وإن لم يتم الحول على هذا الربح‏.‏ وعلى هذا فلو تلف المال قبل تمام الحول سقطت الزكاة، ولو مات المالك قبل تمام الحول فلا زكاة على الوارث، حتى يتم الحول بعد موت مورثه إذا تمت شروط الوجوب‏.‏

ومتى وجبت الزكاة على شخص فإنها لا تبرأ ذمته حتى يضعها في مواضعها التي نص الله عليها في سورة براءة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏.‏

فأما الفقراء والمساكين‏:‏ فهم المحتاجون الذين لا يجدون ما يكفيهم ويكفي عائلتهم‏:‏ إما من المال، وإما من العمل والتكسب، فيعطون قدر كفايتهم وكفاية عائلتهم لمدة سنة على المشهور من مذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ فأما من له مال يكفيه ويكفي عائلته، أو له عمل يكتسب به ما يكفيه، ويكفي عائلته من راتب حكومي أو غيره، فليس بفقير، ولا يجوز له الأخذ من الزكاة بهذا السبب؛ لأنه غير مستحق لها، فعليه أن يحمد الله على نعمته، ويستغني بما أغناه الله به، فإن الزكاة أوساخ أموال الناس‏.‏

ومن أعطى شخصاً من الزكاة لا يعرف حاله وهو يظن أنه فقير فتبين أنه غني، فإن ذلك يجزئه عن الزكاة اكتفاء بما ظهر له من حاله، لأن الاطلاع على باطن أمور الناس في هذه الناحية صعب، أو متعذر‏.‏

وأما العاملون عليها‏:‏ فهم الوكلاء عليها من قبل ولاة الأمور‏:‏ كجابيها، وحافظها، وقاسمها ونحوهم، فأما الوكيل عليها لشخص خاص فليس من العاملين عليها، فلا يستحق منها شيئاً، مثل من أعطيته زكاتك ليفرقها، فهذا لا يستحق على عمله هذا شيئاً من الزكاة، فإن طلب عوضاً على تفريقها فأعطه من مالك‏.‏

وأما المؤلفة قلوبهم‏:‏ فهم الذين دخلوا في الإسلام ولم يتمكن من قلوبهم، أو لم يدخلوا في الإسلام، ولكن يرجى إسلامهم، فهؤلاء يعطون من الزكاة للتأليف على الإسلام‏.‏

وأما الرقاب‏:‏ فهم الأرقاء المماليك، الذين يعطون ليحرروا أنفسهم من الرق والملكية‏.‏

وأما الغارمون‏:‏ فهم المدينون المشغولة ذممهم بطلبات للناس، فيعطون من الزكاة ما يوفون به ديونهم بشرط أن لا يكون عندهم من المال ما يستطيعون الوفاء به، فإن كان لديهم ما يستطيعون الوفاء به، فإنه لا يجوز لهم الأخذ من الزكاة لهذا السبب‏.‏

ويجوز لصاحب الزكاة أن يدفع الزكاة إلى المدين نفسه، ثم يدفعه المدين إلى الطالب، ويجوز لصاحب الزكاة أن يدفع الزكاة إلى الطالب مباشرة، ويقول له‏:‏ هذا عن الدين الذي لك على فلان، وذلك لأن دفع الزكاة في الغرم لا يعتبر فيه تمليك المستحق؛ لأنه في ضمن مدخول ‏(‏في‏)‏ الدالة على الظرفية، دون مدخول ‏(‏اللام‏)‏ الدالة على التمليك فيكون الغرم جهة مصرف لا يعتبر فيه التمليك‏.‏

وأما إذا كان لك دين على فقير فأسقطته عنه ناوياً بذلك أن يكون هذا الدين الذي أسقطته في مقابلة زكاة مالك، فهذا غير جائز، ولا يكفي عن الزكاة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في جواب له‏:‏ ‏"‏وأما إسقاط الدين عن المعسر فلا يجزىء عن زكاة العين بلا نزاع‏"‏‏.‏ انتهى كلامه، وقد علله بتعليل جيد، وهو أن الدين الذي أخرجه بإسقاطه عن المعسر دون العين الذي يملكه ويتصرف فيه كما شاء‏.‏

وأما في سبيل الله‏:‏ فالمراد بذلك صرف الزكاة في الجهاد في سبيل الله، وهو الجهاد الذي أريد به أن تكون كلمة الله هي العليا، فيعطى المجاهدون في سبيل الله من الزكاة ما يستعينون به على الجهاد من مال، أو سلاح‏.‏

وأما ابن السبيل‏:‏ فالمراد به المسافر الذي انقطع به السفر فلم يجد ما يتمكن به من مواصلة السفر إلى بلده فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده وإن كان في بلده غنيًّا‏.‏

هؤلاء هم أهل الزكاة الذين تولى الله بنفسه بيان استحقاقهم لها وفرضها لهم، وختم الآية بصفتي العلم والحكمة للتنبيه على أن هذا التقسيم والمحل الذي جعله الله للزكاة صادر عن علم وحكمة، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، فمن صرف الزكاة في واحد من هؤلاء الأصناف الثمانية فقد بلغت مبلغها وبرئت منها ذمته، ومن صرفها في غير هؤلاء فإنها لاغية لا تبرأ بها الذمة، فعلى العبد أن يتحرى لعبادته، ويستعين الله تعالى في تسديد خطواته، والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين‏.‏ كتبه الفقير إلى الله محمد الصالح العثيمين في 8/9/0931هـ‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين‏.‏

أما بعد، فإن الإسلام دين يطابق العقل والفطرة، ويتمشى معهما إلى الغاية النبيلة التي هدى العقلاء إليها، ولذلك لا يمكن أن تجد في الإسلام ما يناقض العقل الصريح، أو الفطرة المستقيمة‏.‏

ولما كانت النفوس مجبولة على حب المال كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ‏}‏ وكان لابد لهذه المحبة والشفقة على المال من قوانين تضبط النفس، وتقيد الشح، رتب الشارع تحصيل المال وتصريفه، وإنفقاه على الوجه الأكمل المعتدل بين الإفراط والتبذير وبين التفريط والتقتير، ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ‏}‏‏.‏

وكان من جملة ما أمر الشارع بإنفاق المال فيه الزكاة، وهي‏:‏ مال مفروض يؤدى كل سنة إلى مستحقين، وسنتكلم في محاضرتنا هذه على ما يأتي‏:‏

1 ـ حكم الزكاة، وحكم مانعها‏.‏

2 ـ فوائد الزكاة الدينية، والخلقية، والاجتماعية‏.‏

3 ـ الأموال الزكوية ومقدار الواجب فيها‏.‏

4 ـ مصارف الزكاة أي الجهات التي تصرف فيها الزكاة‏.‏

أولاً‏:‏ فبالنسبة لحكم الزكاة فإن الزكاة ركن من أركان الإسلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بني الإسلام على خمس‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت الحرام‏"‏‏.‏ وأما حكم مانعها فإن كان مانعاً لها لإنكاره لوجوبها فهو كافر؛ لأن من أنكر وجوب الزكاة فهو كافر، لتكذيب الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين‏.‏

وإن كان مانعاً لها بخلاً وتهاوناً فإن ذلك ليس بكافر، ولكنه معرض نفسه لعقوبة الله العظيمة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏}‏‏.‏

وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نهار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حى يقضى بين العباد فيرى سبيله‏:‏ إما إلى الجنة وإما إلى النار‏"‏‏.‏ وعن عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع حتى يطوق به عنقه‏"‏ ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَتِ وَالأَْرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ الآية‏.‏

ثانياً‏:‏ بالنسبة لفوائد الزكاة الدينية، والخلقية، والاجتماعية فهي كثيرة، نذكر منها ما يأتي، فمن فوائدها الدينية‏:‏

1 ـ أنها قيام بركن من أركان الإسلام الذي عليه مدار سعادة العبد في دنياه وأخراه‏.‏

2 ـ أنها تقرب العبد إلى ربه وتزيد في إيمانه، شأنها في ذلك شأن جميع الطاعات‏.‏

3 ـ ما يترتب على أدائها من الأجر العظيم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَواْ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ وَمَآ ءاتَيْتُمْ مِّن زَكَوةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ‏}‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من تصدق بعدل تمر ـ أي بما يعادل تمرة ـ من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل‏"‏‏.‏ رواه البخاري ومسلم‏.‏

4 ـ إن الله يمحو بها الخطايا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار‏"‏ والمراد بالصدقة هنا الزكاة، وصدقة التطوع جميعاً‏.‏

ومن فوائدها الخلقية‏:‏

1 ـ أنها تلحق المزكي بركب الكرماء ذوي السماحة والسخاء‏.‏

2 ـ أن الزكاة تستوجب اتصاف المزكي بالرحمة والعطف على إخوانه المعدمين، والراحمون يرحمهم الله‏.‏

3 ـ أن من المشاهد أن بذل النفع المالي والبدني للمسلمين يشرح الصدر ويبسط النفس، ويوجب أن يكون الإنسان محبوباً مكرماً بحسب ما يبذل من النفع لإخوانه‏.‏

4 ـ أن في الزكاة تطهيراً لأخلاق باذلها من البخل والشح، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏.‏

ومن فوائدها الاجتماعية‏:‏

1 ـ أن فيها دفعاً لحاجة الفقراء الذين هم السواد الأعظم في غالب البلاد‏.‏

2 ـ أن في الزكاة تقوية للمسلمين ورفعاً من شأنهم، ولذلك كان أحد جهات الزكاة الجهاد في سبيل الله، كما سنذكره إن شاءالله قريباً‏.‏

3 ـ إن فيها إزالة للأحقاد والضغائن التي تكون في صدور الفقراء والمعوزين، فإن الفقراء إذا رأوا تبسط الأغنياء بالأموال، وعدم انتفاعهم بشيء منها لا بقليل ولا بكثير، فربما يحملون عداوة وحسداً على الأغنياء، حيث لم يراعوا لهم حقوقاً، ولم يدفعوا لهم حاجة، فإذا صرف الأغنياء لهم شيئاً من أموالهم على رأس كل حول زالت هذه الأمور، وحصلت المودة والمؤاخاة‏.‏

4 ـ أن فيها تنمية للأموال وتكثيراً لبركتها، لما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ما نقصت صدقة من مال‏"‏ أي إن نقصت الصدقة المال عيناً، فإنها لن تنقصه، بل يخلف الله بدلها ويبارك له في ماله‏.‏

5 ـ إن فيها توسعة وبسطاً للأموال، فإن الأموال إذا صرف منها شيء اتسعت دائرتها، وانتفع بها الفقير من الناس، بخلاف ما إذا كانت دولة بين الأغنياء لا يحصل الفقراء على شيء منها‏.‏

فهذه الفوائد كلها في الزكاة مما يدل على أن الزكاة أمر ضروري لإصلاح الفرد والمجتمع وسبحان الله العلي الحكيم‏.‏

ثالثاً‏:‏ وأما الأموال الزكوية فهي‏:‏

1 ـ الذهب والفضة‏.‏

2 ـ سائمة بهيمة الأنعام‏:‏ الإبل، والبقر، والغنم‏.‏

3 ـ الخارج من الأرض من الثمار والزروع‏.‏

4 ـ عروض التجارة‏.‏

ونتكلم على المهم من هذه الأجناس الأربعة والذي يكثر وجوده في الوقت الحاضر، وهو الذهب والفضة، والخارج من الأرض، وعروض التجارة‏.‏

فأما الذهب والفضة فالزكاة واجبة فيهما بكل حال، بشرط أن يبلغا نصاباً من أول الحول إلى آخره‏.‏

ومقدار النصاب في الذهب عشرون ديناراً، وفي الفضة مائتا درهم، ولكن ما هو الدينار المعتبر، والدرهم المعتبر‏؟‏

يرى جمهور العلماء أن الدينار المعتبر هو الدينار الإسلامي الذي تبلغ زنته مثقالاً، وعلى هذا الرأي يكون مقدار النصاب من الذهب في الجنيه السعودي أحد عشر جنيهاً وثلاثة أسباع جنيه، وأن المعتبر في الدرهم الدرهم الإسلامي الذي زنته سبعة أعشار مثقال، وعلى هذا الرأي يكون مقدار النصاب من الريال السعودي ستة وخمسين ريالاً، إن اعتبرنا خليط الفضة فضة، أو اثنين وستين ريالاً وتسعي ريالاً إن اعتبرنا الفضة خالصة‏.‏

هذا رأي جمهور العلماء، ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أن المعتبر في الدينار والدرهم هو ما اصطلح عليه الناس، سواء كان مساوياً للمعروف في أول الإسلام، أم أقل، أم أكثر، وعلى هذا الرأي يكون نصاب الذهب عشرين جنيهاً، ونصاب الفضة مائتي ريال‏.‏

واختلف العلماء في الذهب والفضة إذا كانا في ذمة شخص فهل على الطالب زكاة فيهما أم لا، يعني إذا كنت تطلب واحداً دراهم فهل عليك فيها زكاة أم لا‏؟‏

فيرى بعض العلماء‏:‏ أن لا زكاة فيها إطلاقاً؛ لأنها ليست في قبضتك ولا تحت تصرفك‏.‏

ويرى البعض الآخر‏:‏ أن فيها زكاة بكل حال، لكن لا يلزم أداؤها حتى يتسلم الطلب، فإذا تسلمه أخرج زكاته لجميع السنوات الماضية، ويوجه رأيه بأن الطالب له حق التصرف في هذا الدين منه، حيث إن يملك إبراء المدين ومطالبته بوفائه‏.‏

ويرى طائفة ثالثة من العلماء‏:‏ أن الدين إذا كان على غني فإن فيه زكاة تؤديها إذا قبضته لجميع السنوات الماضية، أما إذا كان الدين على فقير لا يملك وفاءه فإنه لا زكاة فيه؛ لأنه في حكم المعدوم، إذ لا يمكنه مطالبة المدين مادام فقيراً، ولكن إذا قبضته تزكيه لسنة واحدة فقط، وهذا القول هو القول الوسط وهو الراجح من حيث الدليل‏.‏

كما اختلف العلماء أيضاً‏:‏ في حلي المرأة التي تلبسه للتجمل، فيرى بعض العلماء‏:‏ أن لا زكاة فيه إذا كان معدًّا للبس، أو للعارية، أما إذا كان معدًّا للتجارة، أو للنفقة ففيه الزكاة، ويوجهون رأيهم هذا بأنه إذا كان معدًّا للبس والعارية فهو بمنزلة الثياب والأواني فلا يكون فيه زكاة، وبأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس في الحلي زكاة‏"‏أما إذا كان معدًّا للتجارة فإنه يكون بمنزلة أموال التجارة، وكذلك إذا كان معدًّا للنفقة كلما احتاجت المرأة باعته وأنفقت على نفسها فإن فيه الزكاة لأنه صار بمنزلة النقود‏.‏

ويرى بعض العلماء أن الحلي يزكى بكل حال إذا بلغ نصاباً ويستدل هؤلاء على رأيهم بأحاديث منها‏:‏

1 ـ عموم الأدلة الدالة على وجوب زكاة الذهب والفضة من غير استثناء، وأما حديث‏:‏ ‏"‏ليس في الحلي زكاة‏"‏ فضعيف لا حجة فيه‏.‏

2 ـ أدلة خاصة تدل على وجوب الزكاة في الحلي مثل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ـ رضي الله عنهم ـ أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال‏:‏ ‏"‏أتعطين زكاة هذا‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏"‏أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار‏؟‏‏"‏ قال فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت‏:‏ هما لله ورسوله، وهذا الحديث رواه النسائي والترمذي وأبو داود، وقال ابن حجر في بلوغ المرام‏:‏ إسناده قوي‏.‏

وأما قياس الحلي على الثياب في أنه لا زكاة فيها، فقياس مردود، لأنه في مقابلة النص، وكل قياس في مقابلة النص فهو باطل مردود على صاحبه‏.‏

وأما الخارج من الأرض‏:‏ فتجب الزكاة في الثمار والحبوب إذا كانت مما يدخر مثل التمر والتين والبر والشعير والذرة وغيرها إذا بلغ ذلك نصاباً، وقدره خمسة أوسق، كل وسق ستون صاعاً بالصاع النبوي، الذي ينقص عن الصاع المعروف هنا بأكثر من الربع، فيكون النصاب بالصاع المعروف عندنا 032 صاعاً وزيادة صاع نبوي، فإذا بلغ الثمر والحب هذا المبلغ ففيه الزكاة، وإن لم يبلغ ذلك فلا زكاة فيه، ومقدار الزكاة نصف العشر إن كان يسقى بمؤونة، والعشر إن كان يسقى بلا مؤونة‏.‏

واختلف العلماء هل تجب الزكاة في العنب إذا لم يمكن اتخاذ الزبيب منه‏؟‏ فقال الجمهور‏:‏ تجب الزكاة فيه، وعلى هذا فتجب الزكاة في العنب الوطني‏.‏

وقيل‏:‏ إن العنب إذا لم يمكن اتخاذ الزبيب منه فلا زكاة فيه لأنه بمنزلة الفواكه، والله أعلم‏.‏

وأما عروض التجارة‏:‏ فهو ما يشتريه التجار للتكسب بالبيع من أي نوع كان فكل شيء يتملكه الإنسان للتكسب فهو من عروض التجارة يقومه صاحبه إذا تم الحول بما يساوي، ثم يخرج ربع عشره، فإذا كان يبلغ ألفاً أخرج خمسة وعشرين، والمعتبر القيمة وقت تمام الحول سواء كانت بقدر الثمن الذي اشترى به، أو أقل، أو أكثر‏.‏

رابعاً‏:‏ وأما مصارف الزكاة أي الجهات التي تصرف إليها الزكاة، فقد تولى الله تعالى بيانها بنفسه فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏.‏

فهؤلاء ثمانية أصناف‏:‏

أولاً‏:‏ الفقراء وهم الذين لا يجدون من كفايتهم إلا شيئاً قليلاً دون النصف، فإذا كان الإنسان لا يجد ما ينفق على نفسه وعائلته نصف سنة فهو فقير، فيعطى ما يكفيه وعائلته سنة‏.‏

الثاني‏:‏ المساكين وهم الذين يجدون من كفايتهم النصف فأكثر، ولكن لا يجدون ما يكفيهم سنة كاملة، فيكمل لهم نفقة السنة، وإذا كان الرجل ليس عنده نقود، ولكن له مورد آخر من حرفة، أو راتب أو استغلال يقوم بكفايته، فإنه لا يعطى من الزكاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب‏"‏‏.‏

الثالث‏:‏ العاملون عليها، وهم الذين يوكلهم الحاكم العام للدولة بجبايتها من أهلها، وتصريفها إلى مستحقها وحفظها ونحو ذلك من الولاية عليها، فيعطون من الزكاة بقدر عملهم وإن كانوا أغنياء‏.‏

الرابع‏:‏ المؤلفة قلوبهم وهم رؤساء العشائر الذين ليس في إيمانهم قوة، فيعطون من الزكاة ليقوى إيمانهم، فيكونوا دعاة للإسـلام وقدوة صالحة، وإذا كان الإنسان ضعيف الإسلام، ولكنه ليس من الرؤساء المطاعين، بل هو من عامة الناس فهل يعطى من الزكاة ليقوى إيمانه‏؟‏ يرى بعض العلماء أنه يعطى؛ لأن مصلحة الدين أعظم من مصلحة البدن، وهاهو إذا كان فقيراً يعطى لغذاء بدنه فغذاء قلبه بالإيمان أشد وأعظم نفعاً، ويرى بعض العلماء أنه لا يعطى لأن المصلحة من قوة إيمانه مصلحة فردية خاصة به‏.‏

الخامس‏:‏ الرقاب، ويدخل فيها شراء الرقيق من الزكاة وإعتاقه، ومعاونة المكاتبين، وفك الأسرى من المسلمين‏.‏

السادس‏:‏ الغارمون وهم المدينون إذا لم يكن لهم ما يمكن أن يوفوا منه ديونهم، فهؤلاء يعطون ما يوفون به ديونهم قليلة كانت أو كثيرة، وإن كانوا أغنياء من جهة القوت، فإذا قدر أن هناك رجلاً له مورد يكفي لقوته وقوت عائلته إلا أن عليه ديناً لا يستطيع وفاءه فإنه يعطى من الزكاة ما يوفي به دينه‏.‏

ولا يجوز أن يسقط الدين عن مدينه الفقير وينويه من الزكاة‏.‏

واختلف العلماء فيما إذا كان المدين والداً، أو ولداً فهل يعطى من الزكاة لوفاء دينه، والصحيح الجواز‏.‏

ويجوز لصاحب الزكاة أن يذهب إلى صاحب الحق ويعطيه حقه وإن لم يعلم المدين بذلك إذا كان صاحب الزكاة يعرف أن المدين لا يستطيع الوفاء‏.‏

السابع‏:‏ في سبيل الله‏:‏ وهو الجهاد في سبيل الله، فيعطى المجاهدون من الزكاة ما يكفيهم لجهادهم، ويشترى من الزكاة آلات للجهـاد في سبيل الله، ومن سبيل الله‏:‏ العلم الشرعي، فيعطى طالب العلم الشرعي ما يتمكن به من طلب العلم من الكتب وغيرها، إلا أن يكون له مال ما يمكنه تحصيل ذلك‏.‏

الثامن‏:‏ ابن السبيل وهو المسافر الذي انقطع به السفر، فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده‏.‏

فهؤلاء هم أهل الزكاة الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه، وأخبر بأن ذلك فريضة منه صادرة عن علم وحكمة، والله عليم حكيم‏.‏

ولا يجوز صرفها في غيرهم‏:‏ كبناء المساجد، وإصلاح الطرق؛ لأن ذكر مستحقيها على سبيل الحصر، والحصر يفيد نفي الحكم عن غير المحصورين، وإذا تأملنا هؤلاء الجهات عرفنا أن منهم من يحتاج إلى الزكاة بنفسه، ومنهم من يحتاج المسلمون إليه، وبهذا نعرف مدى الحكمة في إيجاب الزكاة، وأن الحكمة منه بناء مجتمع صالح متكامل متكافىء بقدر الإمكان، وأن الإسلام لم يهمل الأموال، ولا المصالح التي يمكن أن تبنى على المال، ولم يترك للنفوس الجشعة الشحيحة الحرية في شحها وهواها، بل هو أعظم موجه للخير ومصلح للأمم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

* * *

تم بحمد الله تعالىالمجلد الثامن عشر

ويليه بمشيئة الله عز وجل المجلد التاسع عشر